فصل: تفسير الآية رقم (154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (154):

{ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)}
قلت: {ثم}: هنا للترتيب الإخباري، وقال ابن جزي: هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها، فصح الترتيب. وقال البيضاوي: {أو} للتفاوت في الرتبة، كأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديمًا وحديثًا، ثم أعظم من ذلك: أنا آتينا موسى الكتاب... الخ. وهو عطف على {وصّاكم}، و{تمامًا وتفصيلاً}: حالان، أو علتان، أو مصدران.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ثم} نخبرك أنا {آتينا موسى الكتاب}؛ التوراة، {تمامًا على الذي أحسن} القيام به من بني إسرائيل، ويدل عليه قراءة: {أحسنوا}، أي: تمامًا للنعمة على العاملين به، أو تمامًا على موسى الذي أحسن القيام به، أي: آتيناه الكتاب تفضلاً وإتمامًا للنعمة؛ جزاء على ما أحسن من طاعة ربه وتبليغ رسالته، ففاعل أحسن: ضمير موسى. أو: {تمامًا} أي: إكمالاً على ما أحسن الله به إلى عباده، فالفاعل على هذا: ضمير الله تعالى، {وتفصيلاً} أي: تبيينًا {لكل شيء} يحتاجون إليه في الدين. {وهدى} أي: هداية للظواهر، {ورحمة} للقلوب، {لعلهم} أي: بني إسرائيل، {بلقاء ربهم} للجزاء، {يُؤمنون} إيمانًا صحيحًا، وهو اللقاء بالأجسام والأرواح، والنعيم أو العذاب للأشباح. الله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من أحسن عبادة ربه في الظاهر، وحقق في الباطن، أتم الله عليه نعمته بشهود ذاته وأنوار صفاته، ووهب له علومًا لدنية تفصل له ما أشكل، يكون له هداية لزيادة الترقي، ورحمةً يتهيأ بها قلبه لوحي الإلهام والتلقي. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (155- 157):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}
قلت: {أن تقولوا}: مفعول له، أي: كراهة أن تقولوا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وهذا} القرآن {كتاب أنزلناه مبارك} كثير النفع {فاتبعوه} في الأصول والفروع، {واتقوا} الشرك والمعاصي، {لعلكم تُرحمون} ببركة أتباعه؛ فتحيا به قلوبكم، وتنتعش به أرواحكم، وإنما أنزلناه؛ كراهة {أن تقولوا يوم القيامة} في الحجة: {إنما أُنزل الكتابُ على طائفتين من قبلنا}؛ اليهود والنصارى، وإنما خصهما بالذكر لشهرتهما دون الكتب السماوية، {وإن كنا} وإنه، أي: الأمر والشأن، كنا {عن دراستهم} أي: قراءتهم {لغافلين} أي: كنا غافلين عن قراءة أهل الكتاب، لا ندري ما هي ولا نعرف مثلها، أو لم ندرس مثل دراستهم، ولم نعرف ما درسوا من الكتب، فلا حجة علينا، فقد قامت الحجة عليكم بنزول القرآن.
{أو} كراهة أن {تقولوا} أيضًا: {لو أنا أُنزل علينا الكتابُ} كما أنزل إليهم، {لكُنا أهدى منهم} لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا، ولذلك تلقفنا فنونًا من العلم، كالقصص والأشعار والخطب والأنساب، مع كوننا أميين، قال تعالى لهم: {فقد جاءكم بينة من ربكم} وهو القرآن؛ حجة واضحة تعرفونها؛ {وهدى ورحمةٌ} لمن تدبره وعمل به، {فمن أظلم} أي: لا أحد أظلم {ممّن كذَّب بآيات الله} بعد أن عرف صحتها، {وصَدَف}؛ أعرض {عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب}؛ ألمه وقبحه، {بما كانوا يصدفون} أي: يعرضون ويصدون عنها.
الإشارة: جعل الله رحمة القلب وحياة الأرواح في شيئين: في التمسك بالقرآن العظيم وتدبر معانيه، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، وفي التحصن بالتقوى جهد استطاعته، فبقدر ما يتحقق بهذين الأمرين تقوى حياة قلبه وروحه وسره، حتى يصل بالحياة السرمدية، وبقدر ما يُخل بهما يحصل له موت قلبه وروحه، والإنسان إنما فضل وشرف بحياة قلبه وروحه، لا بحياة جسمه، ولا حجة له أن يقول: كنت مريضًا ولم أجد من يعالجني، ففي كل زمان رجال تقوم الحجة بهم على عباد الله، فيقال لهم: قد جاءكم بينة من ربكم، وهو الولي العارف، وهدى ورحمة لأهل عصره، لمن تمسك به وصحبه، وأما من أعرض عنه بعد معرفته فلا أحد أظلم منه، {فَمَن أظلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنهَا...} الآية.

.تفسير الآية رقم (158):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {هل ينظرون} أي: ما ينتظر أهل مكة {إلا أن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم، أو بالعذاب، لأجل كفرهم، وهم لم يكونوا ينتظرون ذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين، {أو يأتي ربك} أي: أمره بالعذاب، {أو يأتي بعض آيات ربك} يعني: أشراط الساعة.
وعن حذيفة والبراء بن عازب: كنا نتذاكر الساعة، إذ أشرق علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما تداكرون» قلنا: نتذاكر الساعة، فقال: «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدجال ودابة الأرض، وخسفًا بالمشرق، وخسفًا بالمغرب، وخسفًا بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونارًا تخرج من عدن».
{يوم يأتي بعض آيات ربك}، وهو طلوع الشمس من مغربها، كما في حديث الصحيحين، قال الأقليشي: وذلك أن الله تعالى، إذا أراد طلوعها من مغربها، حبسها ليلة تحت العرش، فكلما سجدت وأستأذنت لم يجر لها جواب، حتى يحبسها مقدار ثلاث ليال، فيأتيها جبريل عليه السلام فيقول: إن الرب تعالى يأمرك أن ترجعي إلى مغربك فتطلعي منه، وأنه لا ضوء لك عندنا ولا نور، فتبكي عن ذلك بكاء يسمعها أهل السبع سماوات، ومن دونها، وأهل سرادقات العرش وحملته من فوقها، فيبكون لبكائها مما يخالطهم من خوف الموت، وخوف يوم القيامة، قال: فيبيت الناس ينتظرون طلوعها من المشرق، فتطلع الشمس والقمر خلف أقفيتهم من الغرب، أسودين مُكدرين، كالقارتين، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر، فيتصايح أهل الدنيا، وتذهل الأمهات عن أولادها، والأحبة عن ثمرة قلوبها، فتشتغل كل نفس بنفسها، ولا ينفع التوحيد حينئذٍ. اهـ.
وهو معنى قوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها}؛ كالمختصر إذا صار الأمر عيانًا، وإنما ينفع الإيمان بالغيب، وقد فات يومئذٍ، فلا ينفع الإيمان نفسًا {لم تكن آمنت من قبل}؛ ولا تنفع التوبة من المعاصي وترك الواجبات حينئذٍ؛ لقوله: {أو كسبت في إيمانها خيرًا} أي: لا ينفع نفسًا مؤمنة لم تكن كسبت خيرًا قبل ذلك اليوم، حيث كانت فرطت فيه قبل: وينفع اكتسابه بعد.
والحاصل: أن طلوع الشمس من مغربها يُغلق بعده بابُ التوبة؛ فلا يقبل الإيمان من كافر، ولا التوبة من عاصٍ، وأما الإيمان المجرد عن العمل، إذا كان حاصلاً قبل ذلك اليوم، فإنه ينفع على مذهب أهل السنة، وكذلك العاصي بالبعض ينفعه بعض الذي كان يعمله، كالزاني مثلاً، إذا كان يصلي، فتنفعه صلاته ويعاقب على العصيان، وهكذا، والمنفي قبوله: إنما هو الخير المتروك قبل ذلك اليوم، فلا ينفع استدراكه بعد.
ثم قال تعالى: {قل انتظروا} إتيان أحد الثلاثة؛ الملائكة بعذابكم، أو أمر الله تعالى بإهلاككم، أو بعض آياته، {إنا منتظرون} ذلك، لنا الفوز وعليكم الويل.
الإشارة: ما ينتظر الغافلون والمنهمكون في اللذات والشهوات والإعراض عن الله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم فجأة، فيموتون على الغفلة، فتنزل بهم الحسرة والندم، وقد زلت القدم بهم، أو يأتي أمر الله بطردهم والطبع على قلوبهم، فلا ينفعهم وعظ ولا تذكير، أو يأتي بعض آيات ربك؛ مصيبة أو داهية تثقل قلوبهم عن التوجه إلى الله، وجوارحهم عن طاعة الله. فالغافل والعاصي بين هذه الثلاثة، إن لم يقلع ويتب. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (159):

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين فرقوا دينهم}؛ فآمنوا بالبعض وكفروا بالبعض، وهم اليهود والنصارى، وقيل: أهل الأهواء والبدع، فيكون إخبارًا بغيب، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» قيل: يا رسول الله، وما تلك الواحدة؟ قال: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي».
وقرئ: {فارقوا} أي: تركوا دينهم، {وكانوا شيعًا}؛ جمع شيعة، أي: فرقًا متشيعة، كل فرقة تتشيع لمذهبها وتتشيع إمامها، أي: تنتسب إليه. {لستَ منهم في شيء} أي: أنت بريء منهم، فلست في شيء من السؤال عنهم وعن تصرفهم، أو عن عقابهم، وقيل: هو نهي عن التعرض لهم؛ فيكون منسوخًا بآية السيف، {إنما أمرهم إلى الله} يتولى جزاءهم، {ثم ينبئُهم بما كانوا يعملون} من التفرق فيعاقبهم عليه.
الإشارة: الافتراق المذموم، إنما هو في الأصول؛ كالتوحيد وسائر العقائد، فقد افترقت المعتزلة وأهل السنة في مسائل منه، فخرج من المعتزلة اثنان وسبعون فرقة، وأهل السنة هي الفرقة الناجية، وأما الاختلاف في الفروع فلا بأس به، بل هو رحمة لقوله عليه الصلاة والسلام: «خلاف أمتي رحمة»، كاختلاف القراء في الروايات، واختلاف الصوفية في كيفية التربية، فكل ذلك رحمة وتوسعه على الأمة المحمدية، إذ كل من أخذ بمذهب منها فهو سالم، ما لم يتبع الرخص. وقال بعضهم: ما دامت الصوفية بخير ما افترقوا، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم. ومعنى ذلك: إنما هو في التناصح والإرشاد والنهي بعضهم لبعض عما لا يليق في طريق السير، فإذا سكت بعضهم عن بعض؛ مداهنةً وحياءً فلا خير فيهم، وأما قلوبهم فلابد أن تكون متفقة متوددة، لا بغض فيها ولا تحاسد، وإلا لم يكونوا صوفية. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (160):

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {من جاء بالحسنة} قولية أو فعلية أو قلبية، {فله عشر أمثالها} من الحسنات، فضلاً من الله، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة، وبغير حساب، ولذلك قيل: المراد بالعشر: الكثرة دون العدد، {ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها}؛ قضية للعدل، {وهم لا يظلمون} بنفس الثواب وزيادة العقاب.
الإشارة: إنما تضاعف أعمال الجوارح وما كان من قبل النيات، وأما أعمال القلوب فأجرها بغير حساب، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمَر: 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» وق الشاعر:
كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبي ** قَدْرُه كَأَلْفِ حِجَّهْ

وقد تقدم هذا في سورة البقرة.

.تفسير الآية رقم (161):

{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}
قلت: {دينًا}: بدل من محل، {صراط}؛ لأن الأصل: هداني صراطًا مستقيمًا دينًا قيمًا، و{قَيَّمًا}: فيعل من القيام، فهو أبلغ من مستقيم، ومن قرأ بكسر القاف: فهو مصدر وصف به؛ للمبالغة، و{ملة إبراهيم}: عطف بيان الدين، {وحنيفًا}: حال من إبراهيم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم: {إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج والآيات، {دينًا قيمًا}؛ مستقيمًا يوصل من تمسك به إلى جوار الكريم، في حضرة النعيم، وهو {ملة إبراهيم} أي: دينه، حال كونه {حنيفًا}: مائلاً عما سوى الله، {وما كان من المشركين}، وهو تعريض لقريش، الذين يزعمون أنهم على دينه، وقد أشركوا بالله عبادة الأوثان.
الإشارة: قد أخذ الصوفية من هذا الدين القيم، الذي هدى الله إليه نبيه عليه الصلاة والسلام خلاصته ولبابه، فأخذوا من عقائد التوحيد: الشهود والعيان على طريق الذوق والوجدان؛ ولم يقنعوا بالدليل والبرهان، وأخذوا من الصلاة: صلاة القلوب، فهم على صلاتهم دائمون من صلاة الجوارح، على نعت قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]، وأخذوا من الزكاة: زكاة نفوسهم بالرياضة والتأديب وإضافة الكل إليه. (العبد وما كسب لسيده)، مع أداء الزكاة الشرعية لمن وجبت عليه. وكان الشيخ أبو العباس السبتي رضي الله عنه يعطي تسعة أعشار زرعه، ويمسك العشر لنفسه.
وأخذوا من الصيام: صيام الجوارح كلها، مع صيام القلب عن شهود السِّوى. وأخذوا من الحج: حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب، فالكعبة تشتاق إليهم وتطوف بهم، كما تقدم في آل عمران، ومن الجهاد: الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفوس، وهكذا مراسم الشريعة كلها عندهم صافية خالصة من الشوائب، بخلاف غيرهم، فلم يأخذ منها إلا قشرها الظاهر وعمل الأشباح، فهي صُور قائمة لا روح فيها؛ لعدم الإخلاص والحضور فيها. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (162- 164):

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)}
قلت: {ربًّا}: حال من (غير).
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم يا محمد: {إن صلاتي ونسكي} أي: عبادتي كلها، وقرباتي أو حجي، {ومحياي ومماتي} أي: وعملي في حياتي، وعند موتي من الإيمان والطاعة، أو الحياة والممات أنفسهما، {لله رب العالمين لا شريك له} أي: هي خالصة لله لا أشرك فيها غيره، {وبذلك} أي: بذلك القول والإخلاص، أمرني ربي، {وأنا أول المسلمين}؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.
{قل} لهم: {أغير الله أبغي ربًا} فأشرك مع الله، {وهو ربُّ كل شيء}؛ لأن كل شيء مربوب لا يصلح للربوبية. وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. {ولا تَكسِبُ كلُّ نفس} من شرك أو غيره {إلا عليها} وزره، فلا ينفعني ضمانكم وكفالتكم من عقاب ربي، وهو رد على الكفار حيث قالوا له: اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك، ثم أوضح ذلك بقوله: {ولا تزر} أي: تحمل نفس {وازرة} أي: آثمة {وزر} نفس {أخرى} أي: لا يحمل أحد ذنوب أحد، {ثم إلى ربكم مرجعكم} بالبعث والحساب، {فينبئُكم}، أي: يُخبركم {بما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين؛ فيبين الرشد من الغي، والمحق من المبطل.
الإشارة: الإخلاص سر من أسرار الله، يُودعه القلب من أحب من عباده، وهو أخلاص العبودية لله وحده، ولا يتحقق ذلك للعبد إلا بعد تحرره من رق الهوى وخروجه من سجن وجود نفسه، وهذا شيء عزيز. ولذلك قيل:
وقال الشيخ أبو طالب المكي رضي الله عنه: الإخلاص عند المخلصين: إخراج الخلق من معاملة الخالق، وأول الخلق: النفسن والإخلاص عند المحبين: ألا يعمل عملاً لأجل النفس، وألاَّ يدخل عليه مطالعة العوض، أو تشوف إلى حظ طبع، والإخلاص عند الموحدين: خروج الخلق من النظر إليهم، أي: لا يرون مع الله غيره في الأفعال، وترك السكون إليهم، والاستراحة إليهم في الأحوال. اهـ.